غاب عن بال التلاميذ أنهم في حضرة خالق الكون وحامله. حقًا إنه كان بينهم في صورة الاتضاع كيسوع الناصري، وكان مجده الإلهي مُخفى عن نظر العيان وراء حجاب الناسوت، ومع ذلك كان يجب عليهم أن يعرفوا مَن هو، وكيف ينتفعوا بحضرته المجيدة وغِناه الذي لا يُستقصى. وبكل تأكيد لو أدركت قلوبهم ولو جزءًا يسيرًا مِن مجده لَمَا تجاسروا أن يسألوا: «من أين يستطيع أحدٌ أن يُشبع هؤلاء خبزًا هنا في البرية؟». وموسى مِن قبلهم قد سأل قديمًا: «من أين لي لحمٌ حتى أُعطي جميع هذا الشعب» ( عد 11: 13 ). فدائمًا نجد الله بعيدًا عن حساب القلب الضعيف القليل الإيمان. وهل طلب يهوه من موسى أن يُعدّ لحمًا؟ كلا، لأنه ليس في طاقة الإنسان أن يفعل ذلك، كما أنه ليس في مقدوره أيضًا أن يُشبع أربعة آلاف في برية قاحلة.
ولكن الله كان هناك، مُتكلمًا بشفاه بشرية، قائلاً: «إني أُشفق على الجمع» ( مر 8: 2 )، وهو الذي أحاط عِلمه بظروف كل فرد في هذا الجمهور الجائع الخائر القُوَى، وهو الذي كان يُقدِّر المسافة التي قطعها كلٌ منهم بالتدقيق، والمدة التي صامها، والنتائج التي تنجم عن صرفهم جائعين، وهو الذي فاه بهذه الكلمات الرقيقة: «ليس لهم ما يأكلون. ولست أُريد أن أصرفهم صائمين لئلا يُخوِّروا في الطريق» ( مت 15: 32 ). نعم، كان الله هناك بكل رقة عواطفه التي تستطيع أن تعلم كل دقائق ضعف وحاجة خلائقه، وبكل اقتدار قوته وينابيعه التي لا تنضب. نعم، إنه كان هناك لكي يستودع التلاميذ أفكاره، ويجعلهم أواني لإظهار صلاحه وتوصيل نعمته. وماذا أعوزهم حتى يُتمموا هذه الإرسالية؟ هل احتاجوا أن يتصفوا بصفات معلومة، أو يعملوا أعمالاً مُعينة؟ كلا. لم يُعوزهم إلا أن يروا الرب وينتفعوا بوجوده، ويتدَّربوا أن يكون لهم الإيمان البسيط الذي يرتكن عليه في كل شيء، ويجد كل ينابيعه فيه. هكذا كان الحال مع التلاميذ، وهكذا هو الحال معنا. فإذا أردنا أن نكون موصِّلين لنعمة ربنا يسوع المسيح، علينا بالشركة السرية العميقة معه؛ علينا أن نتعلَّم منه، علينا أن نقتات به، علينا أن نتعلَّم معنى الاتصال بقلبه. علينا بالقرب منه لدرجة نعرف معها أسراره، ونُتمِّم مقاصد محبته. إن أردنا أن نعكس صورته، علينا أولاً أن نجعله طعامنا، ونُمكِّنُه أن يحلّ بالإيمان في قلوبنا.