ما أروع تلك الصورة الأبوية التي يرسمها الروح القدس عن الله في علاقته الأبوية بابنه المحبوب، والتي نرى فيها أنفسنا وقد اتجهت إلينا أعمق وأرَّق المشاعر الأبوية «أنا درَّجت أفرايم مُمسِكًا إياهم بأذرعهم ... كنت أجذبهم بحبال البشر، برُبُط المحبة ... ومدَدْت إليه مُطعِمًا إياه!» ( هو 11: 1 -4). إن تلك الصورة البلاغية تُرينا محبة الآب الصبورة وهو يُهذب ويُدرِّب ابنه على المشي فيُمسك بيدهِ سائرًا معه خطوة خطوة حيث أجواء المحبة والشعور بالأمان والطمأنينة. وحيث لا زال الغلام في حالة الطفولة الروحية وهناك التعثر والسقوط، ولكن يد المحبة تُمسك بذراع الغلام المُتعثر لتُنهضه لمواصلة السير من جديد. إن محبة الله الحانية تُصوِّره لنا كمَن يرفع طفلاً صغيرًا حتى يتلامس وجهيهما، فيمد يده إلى فمهِ، مُطعِمًا إياه لتغذيته بكلام الإيمان والتعليم الحَسن والصحيح ( 1تي 4: 5 ، 6).
لكن آه، فرغم كل هذا ما أردأ قلوبنا حينما تتجاهل محبته، وتجنح بعيدًا عن رأيه ونصائح محبته، ونتمسَّك بآرائنا وأمزجتنا العقيمة. وهذه الحالة تستوجب الإدانة والقضاء، وها نحن في انتظار سخط الله العاصف لسحق ذلك الابن الشارد عنه. ولكن عجبًا فالأيام تمضي، ولا يُسمَع صوت الريح العاصف، ولا هدير أمواج الدينونة، بل نسمع صوتًا منخفضًا خفيفًا يقول: «قد انقلبَ عليَّ قلبي. اضطرمَت مراحمي جميعًا» ( هو 11: 8 ). ويا للعجب! أ لم يجد الله حَرجًا وهو يكشف أمامنا مكنونات قلبه بهذا الأسلوب وبهذه الطريقة! كلا وألف كلا، لأنه أراد أن يُطلِعنا على تلك الأعماق السحيقة حيث خزائن اللطف الإلهي ومستودعات الرحمة الأبدية. «قد انقلبَ عليَّ قلبي. اضطرمَت مراحمي جميعًا»؛ إنه التعبير عن الألم المُصاحب للقرار الذي يجب على الله أن يتخذه، حيث كانت تتصارع أفكاره ومشاعره في داخله، واضطرمت المراحم تعبيرًا عن الرغبة في تقديم الدعم والعون من منطلق الأحشاء الأبوية. ولِمَ كل هذا؟! لأن «القدوس في وسطِكَ» ( هو 11: 9 ). فقداسة الله لا تعنى فقط الجلال والرهبة الإلهيين، بل إنها تعني أيضًا أن الرب يعمل وسط شعبه في إطار المحبة الإلهيه الثابتة غير المتغيرة، وهو يعرف كيف يحفظ ويصون عدله في الوقت الذي يُظهر فيه رحمته ومحبته. فان النعمة الإلهية وبركاتها هي التعبير عن قداسة الله ( إش 41: 17 -20). وهكذا تأتي بنا محبته الجاذبة لنسير وراءه. فها القدوس الأمين صار لحسابنا، حتى يُسكننا البيت الأبدي في سلام وأمان.