بلا شك كان ”زَكَّا“ رجلاً يحظى بكل ما يبتغيه إنسان من غنى ومجد وجاه، فالمال يجري بين يديه بلا حساب، وبيوت الأغنياء قبل الفقراء تُفتح له في أي وقت، وله من المركز ما يؤهله بأن يدخل قصور الحكَّام. ولكن مع كل هذا هل كان مكتفيًا راضيًا قانعًا بما هو فيه؟ نحن نجد الإجابة واضحة من أقوال حكيم الدهور: «كُلُّ الأَنهار تَجري إِلَى البَحر، والبَحرُ ليسَ بمَلآنَ .. العَينُ لا تشبَعُ مِنَ النَّظَرِ، والأُذُنُ لا تَمتلِئُ من السَّمعِ» ( جا 1: 7 ، 8).
ونحن نُدرك مشاعر ”زَكَّا“ القلقة من الفعلة العجيبة التي أقدَمَ عليها، تسلّق الجميزة. فكيف به وهو في هذا المركز المرموق أن يفعل فعلة، يُلام عليها الأطفال إن فعلوها؟! لكنه الفراغ الكبير الذي في قلبه، والجوع الشديد الذي في داخله، جعلاه يستشعر، بكيفيةٍ ما، أنه لن يجد شبعًا لنفسه المُتعَبة المُثقلة، إلا في ذلك الشخص الفريد العجيب. من أجل ذلك، وتحت وطأة شدة الاحتياج والجوع النفسـي، «طلَبَ أَن يرَى يَسوعَ». وهل، وهو في هذه الحالة، يدَع أية عوائق تَحول دون تتميم تلك الرغبة المُلحَّة؟ هل كثرة الجموع، أو قصـر قامته، تَحوْل دون تحقيق ما يصبو إليه ويتمناه؟
وإذ بنا نراه وهو فوق الجميزة، ينتظر أن تكتحل عيناه بمرأى ذلك السيد المجيد، لكن يا للعجب! لقد أصاب مَن قال: إن يشوع القائد الظافر، في يومه أوقَف الشمس في كبد السماء، ولكن هنا ”زَكَّا“ المُتعَب أوقف رب المجد وهو سائرٌ في موكبه الجليل!! «فلَمَّا جاءَ يَسوعُ إِلَى المكَانِ، نظَرَ إِلَى فَوقُ فرآهُ». لقد كانت كل رغبة ”زكَّا“ أن يلمح الرب بنظرة من بعيد، فكيف به يتصوَّر أن الرب بجلاله وعظمته يقف لأجله، ويرفع عينيه إليه هو، بل ويدعو نفسه ليُقيم عنده في بيته! أيّة معانٍ رائعة قرأها ”زَكَّا“ في عيني رب المجد، وهو يتطلَّع إليه، أَ يوجد مَن يهتم به؟ أَو مَن يتفكَّر فيه أفكارًا صالحة، وهو البائس الشقي؟
فلا غرابة بعد ذلك أن تُجري هذه النظرة المعجزات في حياة ”زَكَّا“، فالذي كان مُحبًّا للمال، مُستعبَدًا له، نراه يقف ليعلن أمام الملإ، ما أجرَتهُ تلك النظرة في كيانه، وكيف أن تقابُلهُ مع المُخلِّص العظيم قد بدَّل حاله تمامًا، قائلاً: «ها أَنا يا رَبُّ أُعطي نصفَ أَموَالِي لِلمساكِينِ، وإِن كنتُ قَد وشَيتُ بأَحَدٍ أَرُدُّ أَربَعةَ أَضعَافٍ».