بين كل صور الحب البشري يأتي حب الأم باعتباره الأقرب شبهًا بالمحبة الإلهية. ذراعا الأم تحمل الطفل من تحت، في بواكير عمره. ومعظمنا يعي معنى “محبة الأم”. وربما أولئك الذين فقدوا هذه المحبة يعرفون كنهها أكثر من غيرهم، لأن الذين يتمتعون بالفعل بهذه المحبة، قد لا يُقدرونها حق قدرها، في كل جمالها. ولن ينكشف الحجاب عن قيمتها وغلاوتها إلا عندما تذهب. تفارقنا أمهاتنا بعد أن يكن قد علمننا، في حياتهن، نذرًا يسيرًا من محبة الله ورأفته. ولكن الله نفسه يبقى ويدوم، وذراعيه لن تخذلانا، ولن تفلتانا.
بعد موت “هوراس باشنل” وُجِدت - بين حاجياته – قصاصة من الورق، مُدوَّن عليها هذه الكلمات: “عناية محبة أمي كانت من الله. وكان الله يحل بمحبته نحوي، فيها ومِن خلالها. ولكن محبته كانت أعمق وأقوى من محبتها. رحلت أمي منذ سنوات عديدة، ولكن الله لا يزال إلى جواري، وما زلتُ في حضنه، في شيبتي، كما كنت موضوع عنايته وترفقه، في طفولتي. وقد وهبني الامتياز بأن أعرفه، وأعانني لأدعوه بثقة تامة: يا أبي”.
إن محبة الأم هي محبة الله مُعبَّرًا عنها أولاً للطفل بطرق إنسانية مُترفقة عطوفة حنونة، يستطيع الطفل أن يعيها، إذ ليس ثمة طريقة أخرى لإعلان محبة الله للطفل. فلو ظهر الله للطفل، فقد يرتعب الطفل من مجد جلاله. وشيئًا فشيئًا يبدأ دور الأم يضعف، ولكن الدرس قد وعاه الولد، لتبقى المحبة، ولئن كانت غير مُعبَّر عنها بصوت أو لمس أو معونة بشرية، إلا أنها تظل محبة حقيقية، ليست أقل عطفًا، بل أكثر عمقًا وقوة وديمومة من محبة الأم. وهكذا فإن واجب ودور الأم نحو ولدها هو أن تُعلّمه محبة الله ... ثم ترحل. وماذا كان عمل محبة الأم في قلب ولدها؟ كان يملأه ويُشبعه. وهو ذات فعل محبة الله في قلب الإنسان المُسن اليتيم الأم، والذي يستريح في حضن الذراعين السرمديتين. وليس للمؤمن المسيحي ملجأ سوى حضن المحبة الإلهية غير المحدودة.