نعم سنفهم فيما بعد، ونقدِّر كل معاملات الله معنا، سنعود عندئذٍ ونراجع ماضي تاريخنا، فنرى في النور الساطع من محضره المبارك، أن أشد ضربة هَوَت على رؤوسنا، كانت أعظم مظهر لمحبته في ذلك الوقت. ربما استغربت مرثا ومريم لمّا سمح الرب للموت أن يدخل دارهما. لا ريب أنهما انتظرتا يومًا فيومًا وساعة بعد أخرى، وفي كل لحظة، مجيء صديقهما إليهما، ولكن عوضًا عن ذلك ظل بعيدًا، فدخل الموت، وخابت الآمال. لماذا كل هذا؟ فلنسمع الجواب من فم سيدنا المبارك: «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ. لَكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ» ( يو 11: 11 ).
فما أرق هذه العواطف! يا لها من نعمة بادية في هذه المحبة! ما أحسن الصِلة التي بينه وبين عائلة بيت عنيا وبين تلاميذه أيضًا «لِعَازَرُ حَبِيبُنَا قَدْ نَامَ». ويا له من نوم لطيف هادئ! فالموت ليس بموت في حضرة رئيس ورب الحياة، وما القبر إلا مضجعًا هانئًا «لَكِنِّي أَذْهَبُ لأُوقِظَهُ». ولو لم يكن لعازر قد مات، ما هطلت تلك الألفاظ العذبة من فم السيد. حقًا إن “نهاية الإنسان بداية الله”، فنرى أن القبر قد أفسح المجال لظهور الله، أكثر كثيرًا من فراش المرض.
هذه هي العِلة في تباعد الرب يسوع عن أحبائه الأعزاء. قد ترقب سنوح الفرصة المُلائمة، وهذه لا تكون إلا برقاد لعازر في القبر أربعة أيام، وقد باد كل رجاء وتجلَّى، أن كل الوسائط والطرق باطلة “لَكِنِّي أَذْهَبُ ــــ لا لأقيمه من سرير المرض ــــ بل لأُوقِظَهُ”. فقد خلا الجو من يد البشر، ليشرق مجد الله في ملء سنَائه.
وأَمَا هو خيرٌ لنا، أن يخلو المشهد من الخلائق كلها؟! أ ليست رحمة وبركة، بل رحمة واضحة وبركة جلية، رحمة صادقة وبركة محسوسة، أن تتلاشى كل الدعائم البشرية، وأن يبيد كل رجاء، فيهتف الإيمان هتاف الواثق المتأكد. والإيمان يجد كل لذته ومُنتهى بهجته في الاتكال المُطلق الثابت الدائم على الله وحده، دون سواه.