غني عن البيان أن المسيح كان يعرف قصد الشياطين من وراء طلبهم الخبيث أن يأذن لهم أن يدخلوا في قطيع الخنازير، إلا أنه سمح لهم به، وذلك لعدة أغراض: أولاً: لكي يُعَرِّف الناس أن الأرواح حقيقة لا وهم. ذلك لأن جماعة الصدوقيين أيام المسيح كانوا ينكرون ذلك، ويقولون أن لا روح ولا ملاك ( أع 23: 8 ). فلو كانت الشياطين خرافة، فما الذي كان يُعاني منه هذان المجنونان؟ وإذا فرضنا أنه مرض نفسي، كما يدَّعي الليبراليون الآن، فما الذي جعل الخنازير تغرق في البحر؟ ثانيًا: لكي يعرف الناس غرض الشياطين وطبيعتهم. فكما أن يسوع معنى اسمه "الرب المُخلِّص" فإن الشيطان هو "أَبَدُّونَ" الذي معناه "المُهلك" ( رؤ 9: 11 )، وينطبق عليه قول المسيح: "اَلسَّارِقُ لاَ يَأْتِي إِلاَّ لِيَسْرِقَ وَيَذْبَحَ وَيُهْلِكَ" ( يو 10: 10 ). ثالثًا: ليُبرهن أنه أقوى من الشياطين التي طُردت من هذين المجنونين، مما يُبرهن أنه هو المسيا المنتصر على الأرواح الشريرة. رابعًا: أراد المسيح أن يُوَضِّح أنه المالك النهائي للكل ( مز 24: 1 ). فالشياطين تستأذنه، وهو أعطاهم الإذن. خامسًا: أراد أن يعرف الجميع أن قيمة النفس البشرية الواحدة غالية جدًا. قال المسيح مرة: "الإِنْسَانُ كَمْ هُوَ أَفْضَلُ مِنَ الْخَرُوفِ!" ( مت 12: 12 )، وهنا يُوَّضح أنه أفضل من آلاف الخنازير، فالنفس البشرية خالدة، بخلاف الحيوانات المولودة للصيد والهلاك ( 2بط 2: 12 ). سادسًا: أراد المسيح أن يُعلن أن خلاصه مجاني، ولكن له تبعَات. فلكي يُخَلِّص من الشيطان المُذل، لا بُدَّ أن يُخلِّصهم أيضًا من النجاسة المُتمثلة في الخنازير. وكان عليهم أن يُوازنوا بين خلاص النفس من جهة، والربح المادي المُتمثل في تجارتهم غير المشروعة - بحسب ناموس موسى - من الجهة الأخرى. فماذا يُفضّلون؟ هل يُفضّلون الربح المادي مع الهلاك الأبدي؟ أم يُفضّلون المسيح وخلاصه، ولو أدى ذلك إلى التضحية المادية مع التخلص من كل نجاسة فيها يعيشون؟