«الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا» ... إعلان لا يُدركه العقل؛ فكيف لغير المحدود أن يكون في آنٍ معًا، محدودًا بالمكان والزمان؟! ولكن الإيمان يقبل الإعلانين معًا بلا تفرقة «بِالإِيمَانِ نَفْهَمُ» ( عب 11: 3 ). فالذي لم يكن له بدء، بلاهوته، صار له بدء في ناسوته. في الإعلان الأول نقول: «حَقًّا أَنْتَ إِلهٌ مُحْتَجِبٌ» ( إش 45: 15 )، وفي الآخَر نقول: «لأَنِّي نَظَرْتُ اللهَ وَجْهًا لِوَجْهٍ، وَنُجِّيَتْ نَفْسِي» ( تك 32: 30 ). في سفر الأعمال نرى أن عُبَّاد زَفْس وهَرْمَس، حين شاهدوا بالفعل بولس وبرنابا، صاحوا قائلين: «إِنَّ الآلِهَةَ تَشَبَّهُوا بِالنَّاسِ وَنَزَلُوا إِلَيْنَا» ( أع 14: 11 )، وأوشكوا أن يُقدموا ثيرانًا وأكاليل للآلهة الذين تأنَّسوا.
غير أننا هنا أمام “الْكَلِمَةُ ... الذي هو اللهِ”، يتخذ جسدًا، جسدًا كامل التكوين، جسمًا من لحم ودم، ونفسًا إنسانية وروحًا إنسانيًا، أسلمه عند الصليب «أَسْلَمَ الرُّوحَ» ( يو 19: 30 ). ويقول الروح القدس بلسان البشير: «الْكَلِمَةُ صَارَ جَسَدًا». أما أولاً فإن الفعل «صَارَ» هنا ليس حرفًا ناسخًا يفيد التحوُّل، بل هو في معناه يفيد أن «الْكَلِمَةُ» اتخذ «جَسَدًا». إنه له المجد تناول من الله «جَسَدًا» هيأه له. لقد قال الابن في غرفة اللاهوت: «بِذَبِيحَةٍ وَتَقْدِمَةٍ لَمْ تُسَرَّ. أُذُنَيَّ فَتَحْتَ» ( مز 40: 6 ). وعن دخوله إلى العالم بهذا الجَسَد (الذي هو الترجمة السبعينية للقول: أُذُنَيَّ فَتَحْتَ) أعلن أن الله أتمّ نبوءة المزمور «هَيَّأْتَ لِي جَسَدًا» ( عب 10: 5 ).
وبكل بساطة: فإن معنى هذا الإعلان المجيد هو أن “الْكَلِمَةُ صَارَ إِنْسَانًا”، أي اتخذ الناسوت مسكنًا “للشكينه”. وحرف “ش” في العبرية يعني حرف “س” في العربي، وهكذا فإن “الشكينة” تعني “سكناه”. فالشكينة التي في العهد القديم اتخذت السحابة مسكنًا لها، وكذلك اتخذ «الْكَلِمَةُ» “الجَسَدً” مسكنًا له.